واعتبر ان الدين والملك يكمل احدهما الاخر( ):
" فالملك بالدين يبقى والدين بالملك يقوى( ) , وان الوحدة الوطنية تتم باتحاد السلطة مع الدين( ) , فقد قال اردشير "لا يقوم الدين بغير سرير الملك ولا يقوم الملك بغير الدين وان العاقل يرى احدهما محكوما في الاخر ، لا الدين في غنى عن الملك ولا الملك محمود بدونه, كلاهما حارس الاخر , كأنهما مقيمان في سردق واحد , لايسغني هذا عن ذاك ...."( ).
وقال في موضع اخر :
" واعلموا ان الملك والدين اخوان توأمان , لا قوام لاحدهما الا بصاحبه ...."( ).
ولعل اعطاء اردشير موضوع الدين هذه الاهمية , لانه يدرك الدور الخطير والمؤثر لرجال الدين في المجتمع , وعليه فقد عمل منذ توليه قيادة الدولة على توثيق العلاقة مع القائمين بامور الدين الزرادشتي , واجتهد في المحافظة على مكانة الرياسة العليا لطبقة رجال الدين , لانه ينوب عن الاله( ) , ويتجلى ذلك بقوله:
" ولاينبغي له ( أي الملك ) ان يدع النساك وغير النساك بغير الامر والنهي لهم في نسكهم ودينهم , فإن خروج النساك وغير النساك من الامر والنهي عيب على الملوك , وعيب على المملكة, وثلمة يتسنمها الناس بينة الضرر للملك ولمن بعده"( ).
ولتأكيد رئاسته ( الملك ) للمؤسسة الدينية اطلق بعض الملوك الساسانيين على انفسهم الالقاب الفخمة , فقد اطلق سابور الاول ( 241- 272م) على نفسه القابا عدة منها ( قرين النجوم , اخو الشمس والقمر ) , ولقب كسرى انوشروان نفسه ( الاله الطيب الذي يهب السلام للوطن) وسمى كسرى الثاني نفسه (الرجل الخالد بين الالهه , والاله العظيم بين الرجال)( ).
وبهذا عمل الملوك الساسانيون على جمع السلطتين الدينية والدنيوية وجعل مسألة الدين تحت نظر الدولة( ) , بهدف السيطرة على طائفة رجال الدين الذين طالما استخدموا نفوذهم ضد الملوك وساهموا في عزل بعضهم كما حصل مع الملك قباذ ( 488- 531م )( ).
ولتأكيد ارتباط الدين بالدولة فقد بذل أردشير جهودا كبيرة لنشر الديانة الزرادشتية, مستعينا بمستشاره الموبذان موبذ (تنسر) , فأمر ببناء بيوت النيران في كثير من البلاد , ثم امر بجمع تعاليم زرادشت في مجلد واحد( ) , وقد كان الاسكندر المقدوني ( 333- 223 ق م) قد احرق كتابهم المعروف (بالافستا)( ), ثم ارسل المبشرين والدعاة الى اقاليم الدولة للتعريف باصول الدين( ), وعقد مجمعا لرجال الدين اختير فيه سبعة موابذة , يرأسهم الموبذان موبذ لاقرار تعاليم الدين ونشرها( ).
ولاجل ان يؤمن اردشير هذه الحركة الاصلاحية التي وحدت الدولة ودعمت نظام الحكم فيها فقد منح رجال الدين سلطات واسعة معززا دورهم في اقصاء الديانات الاخرى , وتضييق الخناق على معتنقيها ( ) , وكذلك اشراكهم في ادارة الدولة بتوليهم احيانا المناصب الكبيرة , واعتمد هذا الاسلوب الكثير من الملوك الساسانيين , فقد قلد كسرى انو شروان بابك الموبذ ديوان الجيش( ).
ولم يتوقف اهتمام اردشير بامور الدين عند هذا الحد , بل تعداه الى اكثر من ذلك، اذ جعل احدى مهام الملوك حماية الدين , ومعاقبة من يجرؤ على تاويله تاويلا مخالفا( ).
وفضلا عن السلطات التي يتمتع بها ملك الملوك فهنالك اشارة الى وجود مجلس للاشراف او مجلس شورى الحكومة( ), وقد سماه (ابن اسفنديار) ( ) مجلس امراء البيت الحاكم، واعضاء هذا المجلس هم من ابناء الاسر النبيلة,ويبدو ان صلاحيات هذا المجلس كانت محدودة ومقتصرة على الاعتراف باختيار الملك الجديد واقرار ذلك الاختيار ومباركته ليكتسب الصفة الشرعية, ولم تشر المصادر الى تدخل هذا المجلس في شؤون الادارة والحكم.
وهكذا يتبين بوضوح ان نظام الحكم في الدولة الساسانية كان نظاما ملكيا مستبداً اذ كان الاعتقاد السائد ان الملوك ممثلون للآله وحاملون هبتها السماوية المقدسة , من خلال اعتمادهم النظرية الدينية التي اصبحت فيها الزرادشتية فكرة الدولة الرسمية , والعماد الاول لها.
هـ. ولاية العهد :
لم يترك اردشير الاول ولاية العهد دون ان يضع لها قانونا ينظمها ليكون سنة لمن بعده , وقد ضمن هذا القانون شروطا لايمكن تجاوزها , كان في مقدمتها ان يكون الوريث من العائلة المالكة الساسانية , مستندا في ذلك الى الحق الالهي لهم , باعتبارهم مكلفين من الالهة لتولي امر الرعية( ) , وبهذا وضع حاجزا قويا امام الطامعين في الحصول على العرش وفي مقدمتهم اقرباء الملك وعظماء المملكة( ) , لهذا لم يشهد العهد الساساني الذي امتد لاكثر من اربعة قرون , الا ثلاث حالات اغتصاب للعرش , لاقت جميعها رفضا تاما من المجتمع الساساني , وقُتِلَ القائمون بها( ).
وحسب هذا التشريع فلا يجوز لاحد الجلوس على عرش المملكة , حتى وان كان من عظمائها فعندما توفي هرمز الثاني ( 302 – 309م) لم يكن له من يتولى العرش بعده , وكانت احدى نسائه حاملا فعقدوا التاج على بطنها ( توجوه وهو في بطن امه ) , الى ان ولدت طفلا سمي سابور المعروف ( ذي الاكتاف ) , ( 309- 379م ) , الذي اصبح ملكا للدولة( ) , وهكذا حاول الساسانيون ان يكون الملك في العائلة المالكة فقط .
وكان لابد لمن يعهد اليه بالملك ان يكون سليم الحواس والجوارح( ) , لان التقاليد الساسانية التي وضعها اردشير الاول كان تقضي بان يرتقي العرش من اولاد الملوك من لا عاهة في جسمه( ).فيذكر ان بعض المقربين من الملك سابور الاول (241-272م)قاموا بتحريضه على ولده هرمز الذي كان والياً على خراسان فاخبروه ان ولده يريد الثورة عليه فصدق سابور ذلك واحس هرمز بتلك المؤامرة وأراد أن يُثبت لوالده صدق ولائه فقطع يده وارسلها اليه فتاثر سابور لذلك وزالت شكوكه( ) .
وقد استثمر عظماء المملكة ورجال الدين هذا الشرط خلال عهود بعض الملوك الذين تميزت فترات حكمهم بالضعف , واستشراء الفساد الاداري , وتنازع امراء البيت الساساني على العرش , حيث شجعت هذه الاوضاع على ازدياد نفوذ العظماء ورؤساء الاسر النبيلة للتلاعب بمقدرات الدولة الى حد سمل اعين الملوك, او احداث عاهة في جسمهم تمنعهم من ارتقاء العرش( )، فقد قام العظماء بسمل عين الملك بلاش بن فيروز ( 484- 488م) ونصبوا ابنه قباذ( ) , وسملت عين الملك هرمز بن كسرى انو شروان ( 579 -590م) وعُزل عن الحكم( ) , ثم ان جم بن قباذ الذي كان يحضى بقبول وتاييد من الناس لم يطالب بالعرش بسبب وجود عاهة في عينه ( اعور ) تمنعه من ذلك( ) , وكان الملوك احيانا يسملون الاعين او يقطعون اعضاء من يخشون منافستهم ليجعلونهم غير قادرين لارتقاء العرش( ) , فقد قام كسرى ابرويز (590- 628م) بقطع يد القائد مردانشاه عندما اخبره منجميه ان نهاية حكمه تكون على يد احد قواده( ).
ثم كان يتوجب على ولي العهد ان يكون قد مارس الحكم وتعرف على اداب ورسوم وفنون الزعامة والرئاسة من خلال توليه حكم احدى الولايات او الاقاليم في عهد ابيه( ) , فقد كان سابور الاول ( 241- 272م) وهرمز الاول (272- 273م) وبهرام الاول والثاني (273- 276م) ( 276- 293م) حكاما على خرسان وكوشان قبل ان يرقوا عرش الملكة( ), وكان بهرام الثالث (293-293م) حاكما لسجستان ولقب ساجان شاه أي ملك الساج( ), وولي بهرام الرابع ( 388- 399م) اقليم كرمان ولقب كرمان شاه (أي ملك كرمان)( ) , وقد اراد عظماء المملكة حرمان بهرام الخامس (جور) ( 421- 439م) من وراثة العرش متذرعين بانه لم يل ولاية من قبل , حتى تعرف جدارته بالملك ويذكر ان بهرام قد نشا في الحيرة وتادب بأدب العرب وتقاليدهم( ).
ثم يجب ان يكون ولي العهد على دين زرادشت, فلا يجوز تولية الحكم لمن لا يعتنق الزرادشتية( ), فهي الديانة الرسمية للدولة , فلم يعهد الملك قباذ(488- 531م) الى ابنه (كاووس) لانه كان مزدكيا( ), كذلك لم يولِ كسرى انوشروان ( 531-579م) العهد لابنه (انوش زاد ) لانه كان على الديانة النصرانية( ).
وكانت الطريقة التي وضعها اردشير الاول ( 226-241م) لاختيار ولي العهد قد جعل فيها لرجال الدين والاشراف دورا في تعيين الوريث اذ يقوم الملك , كما اورد (ابن اسفنديار) ( ) بكتابة ثلاث وصايا بخطه , وتختم بختمه فيودع واحدة عند الموبذان موبذ وهو الرئيس الديني الاعلى , والثانية عند ( دبيرمهيت ) وهو كبير الكتاب , وتودع الثالثة عند (ايران سباهبذ) وهو كبير رجال الجيش , فاذا توفي الشاهنشاه يستدعى الموبذان ومعه الرجلان الاخران ثم ترفع الاختام عن تلك الوثائق , ويتشاورون في اختبار احد ابناء الملك فان جاء رأي الموبذان موافقا راي الاخرين , يذاع الراي في الناس، اما اذا كان هناك اختلاف, لايفصح عن أي قرار ولايعلن شيئا عن الوثائق المكتوبة او عن راي الموبذان موبذ, الى ان يجتمع الموبذان موبذ مع الهرابذة ورجال الدين , ويعكفون على الصلاة والتراتيل وهم خاشعون , ويستمر هذا الى المساء ثم يدخل كبير الموابذة ومعه الهرابذة والعظماء والوزراء الى مجلس امراء البيت الحاكم ثم يقول :
" لقد رضيت الملائكة ان فلان بن فلان ملكاً ، عليكم انتم ايها الخلائق ان تقروه وتوافقوا على ذلك " .
ثم يحملون ذلك الامير ويجلسوه على العرش ويضعون التاج على راسه ويقولون :
"اتقبل من الله دين زرادشت الذي قواه السلطان كشتاسب بن لهراسب واحياه اردشير بن بابك" .
فيجيب الامير بالموافقة.
اما رواية (مسكوية)( ), فتذكر ان الملك يكتب اسم ولي العهد في اربعة كتب يودعها عند كبار موظفي الدولة وبعد موت الملك تفتح هذه الكتب المختومة, وكتاب خامس يكون بين طيات الملك المتوفي , فمن كان اسمه مكتوبا في الكتب الخمسة يكون هو الملك , ويبدو ان هذه الرواية اكثر قبولا من سابقتها , لانها اعطت الملك الدور الرئيسي في اختيار وريثه , في حين اعطت الرواية الاولى الموبذان موبذ هذا الدور.
ومهما يكن من امر الروايتين فإن هذه الطريقة في اختيار الوريث لم تكن ملزمة للملوك , اذ ان اردشير نفسه لم يعمل بها , فقد اعطى الملك لابنه سابور وهو على قيد الحياة( ) , واختار كل من سابور الاول (241- 272) وسابور الثاني (309-379م) خليفته بنفسه( ).
اما كسرى انوشروان (531-579م) فقد تولى الحكم بناء على وصية مكتوبة للملك قباذ سنة 531م( ) , فعندما اعترض (كاووس) اخو انوشروان مطالبا بحقه بالعرش لانه الابن الاكبر لقباذ , اخرج الموبذان موبذ نسختين من الوصية وقرأها على مجلس الامراء , واعترف الاعضاء بصحة الوصية , واعلن رسمياً تولي انوشروان العرش( ) , اما هرمز بن كسرى انوشروان ( 579- 590م ) فقد عهد اليه بالعرش بعد ان خضع لامتحان قام به كبير الحكماء بزرجمهر والعلماء والموابذة وبعد ان اظهر تفوقا امر كسرى انوشروان بان يكتب له عهد الملكة وختم وسلم الى الموبذان موبذ( ).
لقد ادت الاوضاع المتردية وخلافات البيت الحاكم , الى ازدياد نفوذ العظماء ورجال الدين ورؤساء الاسر النبيلة التي كانت تحتل مراكز وظيفية عالية , وبلغ من امر قوتهم انهم خلعوا اردشير الثاني ( 379- 382م )( ) , وقتلوا سابور الثالث ( 383- 388م )( ) وبهرام الرابع ( 388- 399م )( ) , وبلغ من ضعف الملوك انهم خسروا حقهم في تعيين ولي العهد بعدهم , حيث آل هذا الامر للعظماء ورجال الدين( ) , فتشير المصادر الى تولي عشرة ملوك حكم الدولة خلال اربع سنوات( ).
وهكذا يتبين ان النظام الذي سنه اردشير الاول لاختيار ولي العهد لم يتم العمل به دائما , اذ لم يكن اختيار الوريث مرتبطاً بقواعد محددة( ) , لكن الواضح ان ولي العهد يجب ان يكون من العائلة الساسانية المالكة.
و. ادارة الدولة :
1- كبير الوزراء :
خلقت الهالة القدسية التي احاط بها الملوك الساسانيون انفسهم , الحاجة الى وسيط بين هؤلاء الملوك وبين العالم الخارجي( ) , وقد كان هذا الوسيط هو كبير الوزراء الملقب (بزرجفرمذار) وتفسيره اكبر مامور( ) , او متقلد الامور( ), وهي احدى الوظائف الموروثة عن الاخمينيين والفرثيين , حيث كان يلقب (هزاربد) أي صاحب الف رقيق( ).
وكبير الوزراء ياتي في مقدمة السلم الاداري بعد ملك الملوك , وهو رئيس الادارة المركزية , والمكلف بادارة الدولة تحت سيادة الملك واشرافه( ) , وهذه المنزلة الرفيعة جعلته يتولى القيام بالمفاوضات الدبلوماسية والتوقيع على معاهدات الصلح وقيادة الجيوش احيانا( ) , ويقوم مقام ملك الملوك عندما يكون في رحلة او في حرب( ) , كما انه يتولى الاشراف على عمل الوزارات ( او مايعرف بالدواوين)( ) , وهو بالتاكيد يشبه رئيس الوزراء في الوقت الحاضر.
ونظرا للمهام الكبيرة التي يقوم بها كبير الوزراء فقد ابتدا اردشير تنظيماته الادارية بعد سيطرته على اقليم فارس , بتعيين وزير له يدعى ( ابرسام بن رحفر) وفوضه سلطات واسعة وكانت جميع الامور تتم باستشارته( ) , وقد اهتم الملوك الساسانيون بوزرائهم اهتماما كبيرا فكانوا يقولون :