واحسن مدنها ، واكثرها فواكه ومياهاً .. الى سعة غلاتها من الحبوب والقمح .. ومخرج مائها عن شعب جبل يعرف ببالوسا " .
وتقع ضمن هذا الاقليم مدينة الحضر وهي (حترا) عند الروم ، وتقع على الاطراف الشمالية لوادي الثرثار في ارض الجزيرة بين دجلة والفرات( ) والكُتاب العرب يعرفون اهل الحضر باسم (الجرامقة) ، وينسبونهم الى ارم بن سام( ). ويرجع تأسيس المدينة الى القرن الاول ق.م ، ويدل ما عثر عليه من النقوش والكتابات ان مؤسسي المدينة من العرب الذين كتبوا بالارامية مثل النبط اهل البتراء وتدمر ( ). وقد وصلت الى اوج عزها اواخر القرن الثاني للميلاد ، وثبتت امام الجيوش الرومانية في المئة الثانية للميلاد( )، الا ان الملك الساساني سابور الاول (241-272م) تمكن من فتحها سنة 241م ، واصبحت من املاك الساسانيين ( )، ومن مدن الاقليم الاخرى ، مدينة الرقة والتي تقع في ديار مضر على مصب نهر البليخ المنحدر من الشمال الى الفرات ، وقامت في موضع المدينة اليونانية القديمة (كلذيكس)( )، وهي من بناء الاسكندر المقدوني 333-323ق.م، وكانت في كثير من الاحيان مسرحاً للحروب لوقوعها على ممر الجيوش ، حتى الفتح العربي سنة 638م ( ).
ثم مدينة قرقيسياء ، وهي كركسيوم القديمة ( )، وتقع على نهر الفرات عند مصب نهر الخابور ، وقد وصفها (ابن حوقل)( ) بانها (لها بساتين واشجار كثيرة) ، والى الجنوب من قرقيسياء تقع مدينة عانة وهي (اناتو) القديمة ، وهي بلدة عامرة على الفرات ( ). وقد ورد اسمها في الكتابات المسمارية بصورة (اناث) ، وفي الكتابات التدمرية باسم آنة ، ويذكر انها كانت المعسكر السابع والعشرين في الطريق الذي انشأه الملك الاشوري توكلتي نيونوردا الثاني (889-884ق.م)( ) .
اما مدن دياربكر وهي اصغر الديارات الثلاثة التي يتالف منها اقليم الجزيرة ، فتقع جميعها على نهر دجلة او في شمالية ، وكانت قصبة هذه الديار مدينة آمد ، وهي (آميدا) عند البيزنطيين ( )، وتقع في الجهة الغربية لنهر دجلة ( )، وتعتمد هذه المدينة على مياه نهر ساتيدما الذي يصب مياهه في احد روافد دجلة( ).
وكانت المدن والكور التي تقع على ضفاف الفرات الشرقية والغربية تعد بوجه عام تابعة لشمالي بلاد الرافدين وتضاف الى اقليم الجزيرة ، واهمها مدينة شمشاط التي تعد ثغر الاقليم ، وهي اجل مدينة على نهر ارسنياس( ) الذي ينبع من الجبال الواقعة شمال بحيرة (وان) ، ويحتل اقليم الجزيرة مكانة مهمة لمرور طرق التجارة بين الشرق والغرب عبر اراضيه، وكانت الكثير من المنتجات الزراعية لهذا الاقليم تصدر الى الاقاليم المجاورة ( )، ولهذا فقد حظي باهتمام الدولتين الساسانية والبيزنطية ، وقد شهدت اراضيه العديد من الحروب الدامية بين الامبراطوريتين وقد تحملت مدن هذا الاقليم عبء تلك الحروب ( ).
ب. اقليم العراق ( ):
قسمت الطبيعة سهل بلاد الرافدين الى قسمين ، الشمالي واطلق عليه البلدانيون العرب اقليم الجزيرة ، وهي مملكة اشور القديمة( )، وعرف القسم الجنوبي وهو (بلاد بابل القديمة)( ) بالعراق أي الجرف او الساحل ( )، وقد اطلق على هذا الجزء من بلاد الرافدين اسماء عديدة ، فقد سماه الفرس سورستان ، ودل ايرانشهر أي (قلب ايران)( ) وسماه العرب بارض السواد ( )، فيذكر (ابن الخطيب البغدادي)( ) ، انما سمي بالسواد لان المسلمين عندما قدموا لفتح الكوفة ابصروا سواد النخل قالوا ما هذا السواد ، وقد حدد البلدانيون اراضي العراق من شمال الانبار على الفرات الى تكريت على دجلة شمالاً الى عبادان على الخليج العربي جنوباً ( ).
وللعرب صلات وثيقة بالعراق قبل الاسلام بمدة طويلة ، فقد كانوا مستقرين في اطراف منه كالحيرة ، وعين التمر ، والانبار ، وكانت قبائل عربية اخرى تتنقل في اطرافه وبواديه ، وقد كان التواصل مستمراً بين عرب شبه الجزيرة العربية وعرب العراق( ) ، الذي كان يقع ضمن مملكة الساسانيين التي قضى عليها العرب المسلمون في عهد يزدجر الثالث (632 – 651م) ( ). وقد احتل مكانةً كبيرة ، حيث نقلوا عاصمتهم الى هذا الاقليم ، فاصبحت مدينة طيسفون (المدائن)( ) عاصمة الدولة الساسانية ، ومستقر ملوكها ، ومركز الادارة ، ومصدر القرار السياسي ( ). واحتلت مدينة الانبار( ) اهمية خاصة عند الملوك الساسانيين الاوائل لانها تمثل خط التماس مع الامبراطورية الرومانية وفيها اخر مسالحهم (حامياتهم) ( )، ويعود بناء مدينة الانبار الى زمن نبوخذ نصر (604 – 562 ق.م) ( ) , وقد شهد اقليم العراق في العهد الساساني خطوات واسعة في مجال الرقي والعمران لاسيما في مجال العناية بمشاريع الري والزراعة ، فاعيد احياء مشاريع الري القديمة المهملة ، وانشأت السدود والمشاريع الاروائية مثل مشروع النهروان( ) فيذكر انها كانت اعظم ما شهدته البلاد من مشاريع في ادوارها التاريخية القديمة ( ).
لقد شهد اقليم العراق قيام عدد من الدويلات او الممالك في العهدين الفرثي والساساني، وقد اصبحت تلك الممالك ضمن الاقاليم الواقعة تحت الحكم الساساني المباشر ، واهمها:
1- مملكة ميسان :
ورد اسم هذه المملكة باللغة الاغريقية بالصيغة (mesene) ، وفي الآرامية بصيغة ميشن ، وفي السريانية باسم ميشان Maisan ، وفي العبرية Mesun ، وفي الارمينية القديمة ميشون Mesun ( ). وعرفت بالعربية دست ميسان ( ). وعرفت ايضا باسم كرخينيا ، وهي المدينة التي بناها الاسكندر الكبير سنة 324ق.م ، عند ملتقى نهر الكارون بشط العرب ، وكان الغرض من بنائها ان تكون الميناء التجاري الرئيس والمخزن المهم لتجارة الشرق والغرب ، واسكن فيها بعضاً من جنوده المقدونيين ( )، لذا سميت احياناً بالاسكندرية( ) وذكرها (الحموي) ( ) باسم كرخ ميسان وهي كورة بسواد العراق ، اما سكان ميسان الاصليون فهم جزريون سكنوا هذه المنطقة منذ ايام الامبراطورية الاشورية ، وهم من الآراميين نزحوا اصلاً من شبه الجزيرة العربية ( )، وقد احتفظت ميسان بتسميتها في العهد الاسلامي بعد تحرير العراق من السيطرة الساسانية ، وظلت مستعملة في العصور الاسلامية الوسيطة ( ).
ويذكر ان كلمة ميسان بابلية الاصل وهي مركبة من (ما) و (سان) وتعني (القمر الاله)( ) , وذكر (بليني) الذي عاش مابين (23م و 79م) انها تقع جنوبي العراق في الارض التي حدها الشرقي نهر الكارون والشمالي عند دجلة( ) , الا ان المؤرخ ديوكاسيوس( ) اشار الى ان مملكة ميسان تشمل الجزيرة التي يؤلفها دجلة والفرات والخليج العربي , بينما اشارت الدراسات الحديثة الى ان ميسان تقع في المستنقع الكائن في دلتا دجلة والفرات , الا ان هناك شبه اجماع على ان مدينة ميسان او (خاراكس) القديمة هي مدينة المحمرة في الوقت الحاضر( ).
ولعبت ميسان دوراً متميزاً في النشاط التجاري بسبب موقعها على راس الخليج العربي( ) , فانتعشت المدينة نتيجة للاهتمام المتزايد من قبل الملوك السلوقيين الذين لم يدم حكمهم طويلا , اذ انتهى بوفاة انطيوخوس الرابع سنة 163ق.م حيث دب الضعف داخل جسد الدولة السلوقية بسبب الصراع على السلطة مما ادى الى انفصال اجزاء واقاليم عديدة مثل عيلام وفارس وميديا لكن اهم تلك الحركات الانفصالية ما قام به الفرثيون الذين استقلوا باقليم بارثيا الواقعة في الجنوب الغربي لبحر قزوين, وتمكنوا من اخضاع كافة المناطق التي كانت تابعة للسلوقيين( ) , الا ان حاكم ميسان (هيسباوسينس) الذي يعد مؤسس هذه المملكة , استطاع ان يحافظ على دولته بعيدا عن تلك الصراعات( ) , وقد اعلن نفسه ملكا( ), واصبح مستقلا استقلالا كاملا( ).
وقد توسعت دولة ميسان , ففي سنة 127 ق.م اصبحت بابل ضمن ممتلكاتها وبذلك استطاع هيسبا وسينس من تكوين دولة عربية موحدة في بلاد الرافدين , واصبحت ميسان تنعم بازدهار كبير بسبب تصاعد نشاطها التجاري مع الشرق( ) , وكان لابد لملك ميسان من ان يدافع عن مملكته , وان يدخل في قتال مع الدولة الفرثية , فخرجت بابل عن سلطته سنة 121-120 ق.م( ) , وعلى الرغم من خسارة الملك الميساني في بابل الا ان ميسان بقيت مستقلة عن الفرثيين , وهذا ما اكدته السفارة الرومانية الى ميسان في عهد الامبراطور جرماينكرس المتوفى سنة 19م( ).
وفي عهد الملك ابو داكس الذي خلف هيسباوسينس على حكم ميسان , اصبحت هذه المملكة مركزا اساسيا في التجارة الدولية مع الهند والشرق الاقصى , ويتضح اهتمام هذه المملكة بالتجارة الدولية من خلال نقش مقدمة سفينة على احد وجهي النقود الميسانية( ).
وكانت لميسان علاقات تجارية مع الصين ودولة تدمر , فقد كان عرب تدمر يملكون حوضا لبناء السفن على سواحل المملكة , وكذلك سبق لدولة ميسان ان كانت لها علاقات تجارية مع دولة الانباط وعرب شبه الجزيرة العربية( ) , واصبحت مكانة ميسان في التجارة الدولية من الاهمية بحيث سمحت بتداول نقود البلدان المجاورة , وبصورة حره ( ) , وفي عهد الملك الميساني اتامبيلوس الاول ( 17/16ق.م – 8/9ق.م ) , حدث اول اتصال مباشر بين ملك ميسان وبين الدولة الرومانية, وقد حافظ الروم على علاقات اقتصادية جيدة مع ميسان لانها كانت المسيطرة على طرق التجارة التي تزود الاسواق الغربية بالبضائع الهندية والعربية( ).
ومن هذا فان الاحداث تشير الى ان مملكة ميسان كانت ايام الدولة الفرثية تتمتع باستقلال ذاتي بعيد عن الهيمنة التامة للدولة الفرثية( ) , ويبدو ان الصراع بين طبقة النبلاء الفرثية على العرش قد ساعد هذه المملكة على الاحتفاظ باستقلالها مع ارتباطها الشكلي بالدولة الفرثية.
وقد شهد القرن الثالث الميلادي تغييرات ومنعطفات مهمة , فقد دب الضعف في جسم الدولة الفرثية , وبدا ظهور قوة جديدة في اقليم فارس , الذي تمرد على حكم الفرثيين بقيادة اردشير بن بابك بن ساسان (226-241م) حيث بدا بالتوسع على حساب الاقاليم الاخرى , ويتهيأ للمعركة الفاصلة مع الفرثيين( ) , وبامر من الملك الفرثي اردوان الخامس (209-224م) تحرك ملك الاحواز لمواجهة اردشير , الا انه فشل في تلك المواجهة وخضعت بلاده لاردشير( ) , الذي تحرك بعدها صوب ميسان واستولى على مدينة الكرخه , وانهى حكم سلالة هيسبا وسينس بقتل اخر ملوكها , المسمى باندو (عبدنركال الثالث) عام 222م( ) , ونصب محله حاكما لقب بـ(ميشون شاه)( ).
واعاد اردشير بناء مدينة الكرخه واطلق عليها اسم ( استراباد اردشير)( )، وعلى مدينة فرات اسم (بهمن اردشير)( ) , وهكذا اصبحت ميسان احدى ولايات الدولة الساسانية.
لقد اضمحلت اهمية مملكة ميسان بعد سيطرة الساسانيين على خطوط التجارة , الامر الذي ادى الى الحد من نشاط التجار التدمريين , ومن ثم توقفت التجارة مع الغرب والهند( ).
لقد اكدت النقوش الميسانية والكتابات التي دونتها القوافل التجارية في تدمر وغيرها الى ان المجتمع الميساني مكون من شرائح مختلفة , طابعها العام زراعي , تجاري , وكان اقتصادها يعتمد بصورة اساسية على استمرار النشاط التجاري( ).
وهكذا فقد كانت مملكة ميسان سوقا ومحطة تجارية وممرا للتجارة الدولية , وقد ادى ذلك الى انتعاش الحركة الاقتصادية في مدن المملكة التي انشأت على الطرق التجارية , ليكون العامل التجاري السبب الاول لقيامها واهم تلك المدن.
1- مدينة خاراكس , Charax : وعرفت ايضا بكرخة ميسان( ) , وهي عاصمة المملكة , ويرجح ان هذه المدينة هي مدينة المحمرة في الوقت الحاضر( ) , وقد ازدادت اهمية هذه المدينة في القرن الاول قبل الميلاد لانها اصبحت اهم ميناء تجاري على راس الخليج العربي( ).
2- مدينة فرات : وقد عرفت في المصادر العربية باسم فرات ميسان ( ) , وهي مدينة البصرة الان ( ) , وقـد اصبحت مدينـة فرات خـلال القـرن الخامس الميلادي العاصمة الاقليمية , فقد جاء في التاريخ الكنسي النسطوري السرياني , ان فرات ميسان اصبحت المدينة الرئيسة بين الاعوام ( 410- 605م )( ).
3- مدينة الابلة : وهي المدينة الثالثة من حيث الاهمية في مملكة ميسان , وتقع الى الجنوب من مدينة فرات , على الضفة الغربية لنهر دجلة , وقد كانت مركزا تسويقيا دوليا ( ).
اما البضائع التي كانت تتاجر بها ميسان فتشمل ماتنتجه محليا من التمور واللؤلؤ , وبضائع اخرى كانت تستوردها فتستهلك قسما منها وتصدر القسم الاخر,وقد استفادت كذلك من تجارة الترانزيت التي جنت منها ارباحا طائلة( ).
2-مملكة الحيرة:
تقع الحيرة جنوب مدينة الكوفة,وعلى بعد ثلاثة اميال عنها( ),في المنطقة المتاخمة للضفة الغربية لنهر الفرات( ),اما نواحيها فقد بنيت على شاطئ بحر النجف وعلى شاطئ الفرات( ),ولايعرف مؤسس الحيرة معرفة اكيدة , فنسب العرب بناءها الى عهد الملك البابلي بختنصر (نبوخذ نصر الثاني604– 562ق.م)( ), وقالوا انها خربت بعد موته وانتقل اهلها الى الانبار, وبقيت خرابا الى ان هاجر رهط من اولاد معد بن عدنان وكانوا يسكنون تهامة من بلاد اليمن,فنزلت قبائل منهم البحرين,وكان بها يومئذ جماعة من الازد( ),وكان المهاجرون مـن تهامـة ابناء (فـهم بـن تيم الله) مـن قضاعة , واتفقت الازد وقـضاعة عـلى