التحالف فسموا تنوخاً , وبهذا تم التكوين التاريخي لاسم تنوخ , وكان ذلك ايام ملوك الطوائف( ).
ثم انتشروا في السواد طمعا في ريف العراق مستغلين ضعف وتدهور الاوضاع الداخلية للدولة الفرثية( ) , فاقام التنوخيون مقرا لهم في الموقع الذي عرف باسم الحيرة( ).
اما عن اصل تسمية الحيرة , فهنالك اراء في اصل اسم الحيرة , فتشير الروايات الى ان عامر والد قحطان (وهو هود) هو الذي حير الحيرة , بمعنى هو الذي مدنها او مصرها( ) , وقيل ان اردوان الملك الفرثي الذي حارب اردشير بنى حيرا فانزله من اعانه من العرب فسمي ذلك الحير الحيرة( ), كما قيل ان (تبع) ( ) لما سار من اليمن يريد الانبار تحير في موضع الحيرة فسماه الحيرة,والراي الاول هو الاقرب لانه يتفق مع الراي القائل ان كلمة الحيرة سريانية الاصل من لفظة (حرثا), (حيرتو) بمعنى المعسكر او الحصن( ), اوالمخيم( ), ولهذا نسبت الى ملوك ال نصر فقيل (حيرة النعمان) و (حيرة المنذر) ( ) , وهو تعبير شائع , وربما يكون مردُّ ذلك لازدهــار الحيرة وعلو شانها في عهد النعمان بن المنذر (400- 418م) وابنه المنذر (418- 462م)، وقد ذكر اسم الحيرة في تاريخ (يوحنا الافسوسي) من مؤرخي القرن السادس للميلاد (ت 585م) فقال :" حيرتود نعمان دبيت بورسوبي" أي حيرة النعمان التي في بلاد الفرس( ) , وهذا يعني ان مملكة الحيرة كانت احد اقاليم الدولة الساسانية.
كان منشا مملكة الحيرة في اواخر القرن الثاني للميلاد حيث اسس احد التنوخيين وهو جذيمة ابن الابرش مملكة عربية في هذه المنطقة( ) , وعرف ملوك الحيرة باللخميين , وبال نصر( ) , وعرفوا ايضا (بالنعامنه) و (بالمناذرة) , وذلك لشيوع اسم النعمان واسم المنذر , وعرفوا ايضا (بال محرق) وفيهم يقول الشاعر الاسود بن يعفر :
مـاذا اؤمـل بعـد ال محـرق تركـوا منازلهم وبعـد أيـاد
ارض الخورنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سنداد( )
اما سكان الحيرة فيقسمون الى ثلاث فئات هي :
1- تنوخ : وهم سكان المظال وبيوت الشعر والوبر وينزلون غربي الفرات فيما بين الحيرة والانبار( ).
2- العباد : وهم ممن سكن الحيرة وابتنوا فيها( ).
3- الاحلاف: وهم الذين لحقوا باهل الحيرة ونزلوا فيها ممن لم يكن من تنوخ ولا من العباد( ).
لقد تمتعت مملكة الحيرة في عهد الدولة الفرثية باستقلال كبير , مستغلة الصراعات الداخلية على العرش( ) , وكان ابرز رؤسائها جذيمة الابرش زعيم التنوخيين الذي شهد نهاية الدولة الفرثية على يد اردشير بن بابك في الربع الاول من القرن الثالث الميلادي , ثم الت رئاسة التنوخيين بعد جذيمة الى ابن اخته عمرو بن عدي بن نصر اللخمي (268- 288م)( ), الذي يعد مؤسس اسرة ال لخم او ال نصر التي انحدر منها ملوك الحيرة( ), وبعد قيام الدولة الساسانية , اثر عمرو بن عدي على اتباع سياسة المسالمة والموادعة مع الملوك الساسانيين,فاصبح احد حلفائهم المقربين وابرز امير عربي في العراق لاسيما بعد سقوط مملكة الحضر على يد سابور بن اردشير(241-272م)( ).
لقد كانت المصالح المتبادلة هي الصفة الغالبة على العلاقات الساسانية ومملكة الحيرة , فقد كان هدف الساسانيين من دعمهم لها هو حماية الحدود الغربية للدولة الساسانية المحاذية للبيزنطيين , والمحافظة على منطقة بلاد الرافدين من هجمات القبائل العربية التي كانت تغير باستمرار على السواد في ارض العراق( ).
فقد اشترك المنذر الاول (418-462م) الى جانب الساسانيين في حربهم ضد البيزنطيين سنة (421م), وقيام المنذر الثالث (505-554م) بغارات على سوريا ضربت اراضي المنطقة حتى انطاكية( ), وقد بلغ نفوذ مملكة الحيرة بحيث اصبحت البحرين في ايام سابور الثاني تحكم من قبل حاكم عربي يعينه ملك الحيرة ولكن الى جانبه احد عظماء الفرس( ),وكذلك تدخلوا في تحديد من يتولى العرش الساساني,فقد قام الملك النعمان الاول (403-431م) بمساعدة بهرام ابن يزدجرد (421-439م) على تولي عرش الدولة الساسانية بعد ان قرر العظماء ورجال الدين بعدم تولي ابناء يزدجرد الحكم , فقد امده بجيش ارغمهم على توليته العرش( ) .
وصلت مملكة اللخمنيين الى قدر من الاستقرار كان من بين مظاهره النشاط المعماري المتقدم مثل قصر الخورنق( ), الذي بناه النعمان الاول (400-418م) بالقرب من الحيرة وقصر السدير الذي اقامه النعمان ايضا, وانتشار قدر من الحياة الثقافية في الحيرة , فقد كان المغنيون والموسيقيون يتوافدون اليها من الجزيرة العربية وبابل( ), الا ان الحيرة فقدت استقلالها ابتداء من القرن السادس الميلادي فقد حكمها الساسانيون حكما مباشرا حيث اصبح احد حكام كسرى انوشروان (531-579م) ويدعى (فيشهرت) ملكا عليها لمدة سنة( ), وفي عهد كسرى برويز اصبحت ايضا تحت حكم مستشار ساساني الى جانب عرش هزيل وضع عليه اياس بن قبيضة الطائي بعد قتل النعمان الثالث (595-604م)( ).
وهكذا يتضح ان الدولة الساسانية ضمت تحت حكمها مناطق واسعة شملت كل بلاد ايران,وعدداً من الدويلات المجاورة لها,وقد اصبحت البلاد الواقعة بين الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية ساحة للحروب المستمرة,لذا فان تبعيتها لم تكن محسومة لاي من الطرفين فقد وصلت حدود الدولة الساسانية الى اقصى اتساع لها في زمن الملك الساساني كسرى ابرويز(590-628م)حيث اصبحت مصر ضمن ممتلكات ملك الملوك الساساني( ),ثم يحدث العكس حيث تنحسر حدودها امام تقدم الجيوش البيزنطية التي وصلت عدة مرات الى العاصمة طيسفون , كما في عهد الملك بهرام الثاني (276-293م) ، وسابور الثاني (309-379م) ( ).
وقد تمكن هرقل من اعادة كافة الاراضي التي سيطر عليها الساسانيون في عهد كسرى الثاني (590-628م) ( ).
ثانياً: تأسيس الدولة وطبيعة نظام الحكم:
أ- ايران قبل العهد الساساني:
كانت ايران منذ منتصف القرن الثالث قبل الميلاد تحت حكم الفرثيين (248 ق.م–224م)، الذين انحدروا من موطنهم الاصلي في منطقة بارثيا باقليم خراسان( )،بعد ثورتهم على السلوقيين بقيادة مؤسس السلالة الفرثية ارشاق بن فرياسب( ).
عمل الفرثيون على توسيع دولتهم بين عامي(160 – 140 ق.م) لتشمل اضافة الى ايران بلاد بابل والمناطق الجنوبية من بلاد الرافدين،وبلاد اشور( ) واسسوا مدينة طيسفون على الضفة الشرقية لنهر دجلة ليتخذوها عاصمة لدولتهم( ). وكانت الدولة الفرثية مقسمة الى ثماني عشرة ولاية( ) وعلى رأس كل ولاية حاكم لا تتجاوز سلطته حدود ولايته ، ويطلق عليه لقب شاه (ملك) ( )، وكانت هذه الولايات مستقلة في شؤونها الداخلية ولها اداراتها الخاصة وموظفون مستقلون عن الادارة المركزية للدولة ( )، التي كانت علاقتها مع تلك الولايات مقتصرة على اعداد الجيوش وارسالها وقت الحرب الى المكان الذي تحدده ( )، ودفع الضرائب المفروضة على كل واحدة من تلك الولايات ( ). الا ان الحكام فيها كانوا يستمدون شرعيتهم من اعتراف الملك الفرثي وتأييده لهم ( ). لهذا اطلق على حكام تلك الولايات اسم (ملوك الطوائف)( ) ، والدولة الفرثية يمكن ان يطلق عليها حسب المصطلح الحديث بالدولة الفدرالية.
لقد دخل الفرثيون في حروب طويلة ضد الرومان استمرت زهاء القرنين ونصف القرن ، بسبب الاطماع التوسعية ومحاولة السيطرة على طرق التجارة المهمة التي تمر عبر بلاد الرافدين والاقاليم الغربية للدولة الفرثية ( )، وكانت هذه الحروب في مقدمة الاسباب التي ادت الى ضعف الدولة واستنزاف قواها( )، ومما زاد من مظاهر الضعف والانقسام الحرب الداخلية بعد وفاة الملك الفرثي بلاش الرابع (191 – 208 م) بين ولديه (اروان وبلاش الخامس) من اجل تولي الحكم ، التي ادت الى تقسيم الدولة ، فأخذ اردوان الاقاليم الغربية واخذ بلاش بلاد بابل ( ).
ولم يقتصر الوهن والإضطراب الذي اصاب الدولة الفرثية على الجانب السياسي فحسب بل شمل ايضاً جوانب الحياة الإجتماعية والدينية , فلم تكن للدولة الفرثية ديانة رسمية توحد ابناء المجتمع الإيراني , اذ يعد الدين الذي تتبعه الدولة ومدى تغلغله بين طبقات المجتمع ومدى ايمانهم به من اهم العوامل التي تساعد على تماسك الدولة ووحدتها( ), فبعد ان انتشرت الديانة الزرادشتية في انحاء البلاد خلال العهد الأخميني( ) , لم تعد تحضى باهتمام الدولة الفرثية, اذا لم تصل أي اشارة الى اهتمام الملوك الفرثيين بالزراد شتية,عدا ما شهده عهد الملك ولجش الأول (71-78م) من تدوين احد نصوص الأفستا( ) . ولم يقتصر ذلك على اهمال الزرادشتية, بل شهدت الدولة الفرثية انتشارعقائد وديانات اخرى لقت رواجا في ارجاء واسعة من البلاد ,فآلهة البابليين والأغريق اعتبرت نفسها آلهة الفرثيين كعبادة اله الشمس (ميثرا), والإلهة اناهيتا( ) ، وكذلك عبادة الاموات من الاجداد( ) كما انتشرت الديانة اليهودية في بعض مناطق ايران ، وانضمت جماعات من اليهود في القرن الاول الميلادي تحت رئاسة رأس الجالوت( ), واعترف الملك الفرثي بهم بصفتهم جماعة لها شيء من الاستقلال، ثم دخلت المسيحية الى ايران في القرن الاول الميلادي عن طريق بلاد الشام واسيا الصغرى ، وتغلغلت البوذية في الاقاليم الشرقية من ايران أبان العهد الاغريقي ( ).
واضافة الى التنوع الديني ، شهد العهد الفرثي تنوع وتعدد اللهجات واختلاف اللغات التي كانت سائدة ، فقد كانت لغة الجنوب الغربي من ايران (اقليم فارس) هي اللغة البهلوية التي اصبحت فيما بعد اللغة الرسمية للدولة الساسانية ، والى جانبها اللغة البهلوية الاشكانية ، وهي اللغة الرسمية للملوك الفرثيين ( ). اما الدرية فكانت لغة اهل خراسان( ) ، وهناك لغة خاصة برجال الدين هي لغة الافستا وهي لغة من الايرانية القديمة ( )، وهنـالك لهجات ولغات اخرى اقل انتشاراً ( )، وقد اثر هذا التنوع على النسيج الاجتماعي للمجتمع الايراني .
وهكذا تتضح اوضاع ايران قبيل العهد الساساني ، وما كانت عليه البلاد من اضطراب سياسي واجتماعي ادى الى انحلال بنائها الداخلي ، مما شجع بعض الامراء المحليين الطامحين للقيام بتمردات من اجل الاستيلاء على الحكم وتوسيع مناطق نفوذهم ، اذ نجح اردشير بن بابك (226-241م) في القضاء على حكم الفرثيين وان يؤسس دولة جديدة عرفت بالدولة الساسانية .
ب. نسب الاسرة الساسانية:
لقد أدت سياسة الاسكندر المقدوني (336-323ق.م) بعد سيطرته على الشرق وبلاد ايران الى اندثار الكثير من المعالم التاريخية والاثار الفكرية للدولة الاخمينية ( )، فما قام به الاسكندر وخلفاؤه من تدمير وحرق للكتب الدينية والتاريخية اثر تأثيراً كبيراً على الحقائق التاريخية ، فلم يبق في القرن الثالث الميلادي غير الاساطير والقصص في اذهان الايرانيين ، التي كانت من اهم مصادر تفسير تاريخهم القديم ( ). فيذكر (تنسر)( ) في جوابه على رسالة ملك طبرستان
" ... وقد اجمع عليكم من ذهاب الدين ان ضاع ايضاً علم الانساب والاخبار والسير وسقط من الذاكرة ، فصرتم تكتبون بعضه في الدفاتر وتنقشون بعضه على الاحجار والجدران ، حتى انكم ما عدتم تحتفظون في الخاطر بشيء قط مما جرى في عهد والد كل منكم ... "( ).
وعليه فقد امتزج تاريخ ظهور الاسرة الساسانية بالعديد من الاساطير ( )، فقد ذكرت بعض الروايات التاريخية الساسانية ان الملك اردشير (226-241م) مؤسس الدولة الساسانية يعود في نسبه الى دارا الاول (522 – 486ق.م) اخر الملوك العظام من الاسرة الاخمينية وقد اوصله نسبه هذا الى الملك بشتاسب (القرن السادس ق.م) المعاصر لزرادشت( ) فقد جاء في هذه الروايات ان بهمن بن اسفنديار والذي يعرف باسم (اردشير طويل الباع) ( )، تولى العرش الأخميني بعد جده بشتاسب , وقد تزوج من ابنته(هماي) التي تولت العرش بعد وفاته وهي حامل( ) . وكان لبهمن ولد يدعى ساسان كان يطمع في تولي الحكم بعد وفاة الملكة (هماي) الا ان آمال ساسان بتولي العرش قد تبددت بولادة هماي لإبنها المسمى (دارا) والذي يعد الوريث الشرعي للعرش بعد امه, وهذا دفع ساسان الى الرحيل الى جبال اصطخر والعمل برعي الأغنام مع الأكراد ( ) ويدعى الساسانيون ان ساسان هذا هو جدهم( ) , ويبدو ان هذه الرواية تحضى بشيء من التأييد , فبعد ان تمكن اردشير من بسط سيطرته على بعض مناطق فارس ارسل اليه الملك الفرثي اردوان الخامس كتابا جاء فيه :
"انك عدوت طورك واجتلبت حتفك ايها الكردي المربى في خيام الأكراد "( ).
وتكرر هذا عندما نشبت الحرب بين كسرى ابرويز (590-628م) وبهرام جوبين سنه(591م) حين قال بهرام جوبين لكسرى ابرويز :
"ياابن الزانيه المربى في خيام الاكراد " ( ).
ثم ان اردشير كان قد اعلن ان نسبه يعود الى الأسرة الأخمينية , عندما اعلن ثورته على الفرثيين تحت عنوان اعادة واسترجاع ملك ابن عمه دارا بن دارا بن بهمن الذي قتل على اثر هجوم الأسكندر المقدوني سنة 331 ق.م , فقد جاء عن اردشير :
".. حتى كان على راس دارا بن دارا ما كان وغلبة الاسكندر على ما غلب من ملكنا , فكان افساده من امرنا وتفريقه جماعتنا وتخريبه عمران مملكتنا ولما اذن الله في جمع مملكتنا ودولة احســابنا وكان من ابتعاثه إياّنا ما كان وبالإعتبار تتقىّ الغير ومن يخلفنـا اوجد للإعتبار "( ).
وهكذا عد اردشر ثورته هي لرد الملك الى اهله ايام سلفه وآبائه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف ( ) , عاداً نفسه الوريث الشرعي لدارا الأخميني ويتضح ذلك ايضاً من مراسلاته الى الرعية حيث كانت تتضمن عبارة (من اردشير وارث العظماء) ( ).
ولم تكتفِ الاساطير والروايات بربط نسب اردشير بعائلة الملوك الاخمينين فحسب ، بل ذهبت الى اكثر من ذلك ، حيث ورد في احدى الروايات ان اردشير يعود في نسبه الى عائلة منوجهر التي ينتمي اليها الملك الايراني القديم ايرج بن افريدون ( )، وحسب الاساطير الايرانية القديمة التي لها رواج عند رجال الدين الزرادشتي ، ان هذه العائلة ينتمي اليها زرادشت (نبي الايرانيين القدماء) ( ). وبهذا جعلوا اردشير يرتبط في نسبه بعائلة الملوك من جهة وبالنبي الايراني من جهة اخرى ، ليضيفوا الى نسبه قدسية ، ويبدو ان الروايات العربية التي تناولت نسب الاسرة الساسانية قد اخذت مادتها من تلك الروايات ، اذ اوصلت تلك المصادر نسب اردشير مؤسس الدولة الساسانية بالملوك الاخمينيين ، فقد جاء في نسبه (اردشير بن بابك بن ساسان بن مهرس بن ساسان بن بهمن بن اسفنديار بن بشتاسف) ( ).
ان المدة الزمنية الطويلة التي تفصل بين دخول الاسكندر المقدوني ومقتل دارا بن دارا وبين ظهور اردشير ، والتي تقارب خمسة قرون ونصف (331ق.م – 224م)( ) جعلت الكثير من المؤرخين يضعون علامات الاستفهام حول نسب اردشير ويشككون في اتباطه