الحسد سجن الذات
قد يظل الإنسان يعيش في سجن نفسه، وقد يوفّق الى الخروج من هذا السجن من خلال الإرادة
والتخطيط والمثابرة والاستقامة؛ بل إن الإنسان إنما جيءَ به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل أن يخرج
من هذا السجن، فان خرج منه دخل الجنة، وإن بقي فيه كان مصيره النار المحيطة بالكافرين كما يقول
ربنا عز وجل: «وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ» (التوبة/49).
وفي هذا المجال مجال الخروج من سجن الذات - يقول الله تعالى: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ» (الحشر/9) وبعبـارة أخرى؛ فانّ الإنسان الذي يخرجه الله تعالى من زنزانة ذاته، ويحفظه
من شرّ نفسه، وينقذه من ضغوط هذه النفس الأمارة بالسوء، فانّه يكون قـد تخلّص من النار، هذه النار
التي نطلب من الله تبارك وتعالى أن يقينا شرهـا كـل يوم عندما نقول فـي دعائنـا: «رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَـةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَـةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (البقرة/201).
وفي الحقيقة؛ فان النار في الدنيا هي هذه النفس، والنار في الآخرة تتمثّل في تلك الدار التي لا رحمة
فيها، رغم أن رحمة الله جل وعلا قد وسعت كلّ شيء، فنعوذ به تعالى من هذه الدار التي يقول عنها
الإمام علي عليه السلام إنها نار سجّرها الجبّار لغضبه.
إن هناك فـي النفس البشرية صفات وجذوراً للفساد يجب اقتلاعهـــا،
وإلاّ فأنها لا تلبيث أن تتفرّع من جديد؛ ومن هذه الصفات المترسّخة في النفس صفة الحسد التي تتفرّع
بدورها من جذر آخر وهو العيش في زنـزانـة النفس؛ أي أن يعيش الإنسـان لنفسه ولوحده، ولا يعتـرف
بالآخرين، ولا يقرّ بالحق. ولذلك فانّ الانسان الحسود يعيش لوحده، ولا يعترف بالناس، وكأنّه يريد أن
يعيش لوحده في هذه الدنيا، ويريد خيراتها لنفسه.. ولذلك فانّ هذا الانسان إذا ما رأى انساناً آخر
سعيداً فانّه يحسده على سعادته هذه، ويدعو دعاءً باطلاً أن تُسْلَب منه هذه السعادة لتكون من نصيبه
هو فقط، وكأن رحمة الله تعالى ضيّقة لا تسعه إلاّ هو! في حين إنّ من المفروض في الإنسان أن يدعو
الخالق أن يعطيه، ويعطي الآخرين في نفس الوقت ويجزل لهم في هذا العطاء. فمجرّد أن يدعو
الإنسان للآخرين فانّ هذا سيكون سبباً لأن يستجيب الله تعالى لدعائه. وفي هذا عن الإمام جعفر
الصادق عليه السلام، أنه قال: "من دعا لأخيه بظهر الغيب، وكّل الله به ملكاً يقول: ولك مثلاه ".([69])
الحسد يمنع دخول الجنّة
ولنعلم أنّ الإنسان الذي يحمل قلبه ولو ذرّة واحدة من الحسد لا يمكن أن يدخل الجنّة، لأن هذا الإنسان
إذا حمل قلبه الحسد، فانّه سيعيش حالة الألم، ومن المعلوم أن لا مكان للألم في الجنة. فالأفضــل
للحسـود - إذن - أن لا يدخـل الجنّـة ! لقولـه تعالـى: «لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ» (الاعراف/46) فأهل
الجنة لا مكان للإنسان الحسود بينهم، فهم يعيشون حالة نفسيّة ملؤها السرور والحبّ والنقاء، كما
يقول عزّ من قائل: «إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» (الحجر/47) فنفوسهم تبلغ من الصغاء والنقاء درجة
بحيث إن الواحد منهم يشعر بالهناء واللذّة والسعادة عندما يرى إخوانه يتلذّذون وينعمون بالنعم الإلهية
في الجنة، لأن قلوبهم واحدة. فنسأل الله جل وعلا أن يرزقنا دخول الجنة، وأن نعيش تلك اللحظات
السعيدة؛ بل ذلك الأبد المليء بالهناء، والفرح، والسعادة.
إن هذه الصفات يجب أن تتحوّل الى صفات حقيقيّة، بل يجب أن يحوّلها الإنسان الى أهداف سامية
يسعى للوصول إليها عبر حياته، وأن يسارع الى إزالة الصفات السلبية، فالانسان من الممكن أن
يتسطيع الآن القضاء على الحسد، ولكنّه سوف لا يستطيع ذلك إذا توانى في البدء.
وفي هذا المجال يروى عن السّيد بحر العلوم أنه خرج من منـزلـه ذات يـوم وهـو أشـدّ ما يكون فـرحاً
وسـروراً، فلمّا سئل عن ذلك قــال: لأنّني استطعت اليوم أن أتغلّب على صفة الحسد في نفسي، وقد
تمكّنت - والحمد لله - أن أقطع رأس الثعبان!!
صحيح إنّ الإنسان قد يكون من الصعب عليه في البداية أن يتغلّب على الحسد، ولكنّه يجب أن يسعى
ويسعى حتّى يوفّق في النهاية الى اقتلاع هذه الصفة السلبيّة من نفسه، وحينئذ سيشعر بالراحة
والاطمئنان، ويدرك أنّه قد أصبح من أهل الجنّة؛ لأنّه إذا رأى أخاه المؤمن وقد أنعم الله عز وجل عليه
بنعمة، فانه يفرح لنـزول هذه النعمة عليه، ويحمد خالقه قائلاً: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ» (الحشر/10).
القرآن يعالج الحسد
وفي الآيات القرآنية التالية يشير الله سبحانه وتعالى الى صفة الحسد، وآثارها السلبيّة من خلال تذكيرنا
بالمصير الذي آل إليه ابنا آدم اللذان قتل أحدهما الآخر: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَاَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لاََقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَىَّ
يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاََقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي اُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِاِِثْمِي
وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآؤُاْ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَاَصْبَحَ مِنَ
الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَاُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَاَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» (المائدة/27-31).
لقد كان بإمكان قابيل أن يتعايش مع أخيه، ولكنّ الحسد المستند الى أسباب تافهة هو الذي دفعه الى
قتله، فراحت نفسه الأمّارة بالسوء توسوس له أنّ هابيل قد حصل على شيء أعظم منه وهو أنّ الله
سبحانه وتعالى تقبّل قربانه، ولكنّه لم يتقبّل القربان الذي قدّمه هو. ويجيب هابيل على إحتجاجات أخيه
بأنّ الذنب كان ذنبه هو، إذ قدّم لرب العالمين قرباناً هزيلاً، وإذ لم تكن لديه دوافع خالصة لوجه الله في
تقديم هذا القربان، أمّا هابيل فقد جاء بغنم من أحسن ما تكون وضحّى بها في سبيل الله عز وجل.
وعندما ترك هابيل قابيل لشأنه ازداد الأخير حسداً، لأنّه رأى نفسه تنـزل الى الحضيض في حين أنّ
قابيل قد صعد إلى مدارج الكمال، فما كان منه إلاّ أن جاء بصخرة كبيرة، وضرب بها رأسه وهو نائم بعد أن
علّمه الشيطان الرجيم طريقة القتل، وحينئذ بعث الله سبحانه وتعالى غراباً ينبش في الأرض بعد أن قتل
غراباً آخر، ثم دفن جثّة الغراب المقتول، وعندما رأى قابيل هذا المشهد استولى عليه الندم، وبادر الى
دفن أخيه وهو يؤنّب نفسه ويقرّعها، لأنّه عجز أن يكون مثل ذلك الغراب فيواري سوأة أخيه.
وبعد تلك الآيات التي يذكر فيها الله جلّت قدرته قصّة أوّل حسد في تأريخ البشرية، يقول تعالى: «مِن أَجْلِ
ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَاَنَّمَآ أَحْيَـى النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ» (المائدة/32)
ثلاث حقائق أساسية
وهنا أريد أن أتوقف عند هذه الآية الكريمة؛ إذ المعلوم أنّ السياق له دلالة، فما هي دلالة هذا السياق،
ولماذا تأتي هذه الآية بعد سرد تلك الحادثة مباشرة؟ وهنا أستنبط من هذه الآية ثلاث حقائق أساسية هي:
1- ربّما تدلّ هذه الآية خصوصاً وأنّها قد جاءت بعد الآيات السابقة على أنّ أكثر أسباب القتل شيوعاً صفة الحسد.
2- إنّ الإنسان إذا عاش للآخرين، فانّه لا يمكن أن يحسد، وفي هذه الحالة فكأنّه أحيى الناس جميعاً. أما
إذا عاش لنفسه فانّه سوف يضمر الحسد فيها، وفي هذه الحالة يكون بمثابة من يقتل الناس جميعاً، لأن
الانسان الذي يعيش داخل إطار ذاته، ولا يقيم للآخرين أيّ وزن، بل يعدمهم من حسابه، فانّه سيقتلهم
في نفسه قبل أن يقتلهم قتلاً مادّيـاً، ولذلك يقول القرآن الكريم: «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِـي
الاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً». ذلك لأنّ الإنسان الذي يريد أن يزهق روح واحد من الناس فانّه لا
يحترم الحياة، ويعيش في سجن نفسه.
3- إنّ القتل ليس هو القتل المباشر فحسب، فقد يكون هناك قتل غير مباشر، ولذلك جاء في الحديث
الشريف عن محمد بن عبيد بن مدرك قال: دخلت مع عمّي عامر بن مدرك على أبي عبد الله (الإمام جعفر
الصادق) عليه السلام فسمعته يقول: "من أعان على مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل وبين عينيه
مكتوب: آيس من رحمة الله". ([70])
وعلى سبيل المثال؛ فان الفتوى التي أصدرها شريح القاضي بقتل الإمام الحسين عليه السلام أدّت الى
أن يحتشد ثلاثون ألف إنسان في كربلاء، كلّهم يريدون قتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام، والسبب
في ذلك الكلمة التي صدرت من شريح الذي كان مدفوعاً بالحسد. فالعلماء يبتلون عادة بهذه الصفة،
فهذا الرجل لم يكن يكنّ الحبّ للإمام الحسين عليه السلام، فقد كان يعلم أنّه لو جاء الى الكوفة فانّ أوّل
ما يفعله هو عزله عن منصبه.
إنّ الإنسان الذي يغشى المجالس العامّة، ويتحدّث بالسوء عن المؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله تعالى،
ويحاربون الطاغوت، ويبثّ الاشاعات حولهم، ويفشي أسرارهم، فانّما يساهم بعمله هذا في سفك دماء هؤلاء المجاهدين.
وفي الحقيقة فانّ المعلومات التي نجدها منشورة في الصحف الأجنبية، إنّما استقوها من مجالسنا،
فهناك من يخوض في أسرار الآخرين بدون ورع، وبدون تقوى وخوف من الله تعالى، في حين إنّ من
الحرام على الإنسان أن يهتك سرّ أخيه المؤمن، فإذا عمل عملاً رسالياً حسناً فلا يجوز له أن يكشف عن
هذا العمل للسلطات الجائرة، وإذا عمل عملاً سيّئاً فلا يجوز له أن يشيع الفاحشة.
الحسد الشرك الأكبر
إن الحسد هو الشرك الأكبر الذي أعدّه الشيطان للإنسان، فلابدّ من أن نحذر من هذا الشرك وأن نبادر
الى تقطيعه، لأن الشيطان يستدرج الإنسان فلا يعرف أنّه حسود في ذاته، فالشيطان يحاول إخفاء
صفاته السيئة وتزيينها.
وعلى هذا؛ فانّ على الواحد منّا أنّ يستغفر الله كثيراً في كلّ يوم لئلاّ يأتي يوم القيامة وقد كتب على
جبهته "آيس من رحمة الله".
رد مع اقتباس